رجال الإسعاف دائماً على العهد في خدمة المواطنين ، وتلبية الحالات المرضية سواء على الطرقات أو في المياه وحتى في واقعة اليوم تحت الأرض بعد سقوط سيدة في بئر عميق .
واقعة اليوم البطولية لرجال الإسعاف، في طريق القطامية لإنقاذ حياة سيدة سقطت في بئر صرف صحي عميق.
"صرخات السيدة دفعتني للنزول للبئر لنجدتها"، بتلك العبارة المقتضبة عاجلنا الزميل إبراهيم السيد بسرد تفاصيل تلك الواقعة التي جرت فصولها في بئر للصرف الصحي تحت أضواء الهواتف المحمولة.
بلهجة حادة ونبرة عاجلة، صدح جهاز اللاسلكي بالنداء على الزميلين مسعف إبراهيم السيد سعدة وزميله قائد المركبة الإسعافية وليد محمد بوجود بلاغ عن سقوط من علو بطريق القطامية السخنة القديم. تبدلت ملامح الزميلين فور انتهاء إشارة جهاز اللاسلكي لتأخذ طابع الجدية، جدية ترجمتها سرعة وصولهم لموقع الحادث في غضون لحظات معدودة. صرير مكابح السيارة كان أشبه بالإعلان عن وصول طوق النجاة لموقع البلاغ. اندفع عدد من المواطنين لاستقبال رجال الإسعاف واقتيادهم صوب مكان الحادث، وبخلاف التوقعات التي تصاحب تلك الحوادث، تبين أن المصاب في باطن الأرض، وليس على سطح الأرض. للحظات تجمد المشهد وتوقفت الأقدام التي كانت تهرول منذ قليل أمام فوهة بئر صرف صحي عمقه يقارب ١٢ مترا، ولا يوجد به سلم يقود لقاعه حيث يقبع ذلك المصاب. كل المعطيات كانت كفيلة بإعلان انتهاء مهمة رجال الإسعاف عند تلك النقطة والاكتفاء بإصدار استغاثة لانتشال المصاب من البئر لكي تبدأ مهمتهم بعد انتشال المصاب والصعود به لسطح البئر.
ولكن تحطمت تلك المعطيات وتلك الإشكاليات أمام صرخات وأنّات المصاب بذلك البئر، والتي كان يزداد صداها في باقي أنابيب شبكة الصرف الصحي الممتدة بالموقع، فتعلو لفوهة البئر بصدى صوت كفيل بأن يحرك أعتى القلوب وأشدها. تلك الصرخات والأنّات جعلت الزميلين يصرخان في آن واحد: "دي واحدة ست"، لينطلقا بحثًا عن مدخل بديل، وبالفعل، وعلى بعد عدة أمتار، كانت هناك فتحة بئر أخرى بها سلم غير مكتمل لا يصل لقاع البئر، ولإكمال المسافة يجب التشبث والقفز على باقي مواسير شبكة الصرف الممتدة بقاع البئر.
دقائق ثقيلة على رجال الإسعاف تعلقت بهم خلالها عيون الحشود البشرية التي بدأت تتوافد على البئر، في ترقب لم يدم إلا للحظات، ليسرع الزميلان كلٌّ في طريقه. بدأ الزميل إبراهيم رحلته إلى قاع البئر عبر ذلك السلم غير المكتمل، ليتخلى، وبمحض إرادته، عن القاعدة الذهبية لكل من يعمل في مجال الطوارئ: "أمانك أولًا". تخلى عن أمانه وسلامته أمام صرخات وأنّات تلك السيدة، والتي جمعه بها رابط واحد وهي أنها في أزمة ومحنة. ووصل إبراهيم للسيدة، ولحق به اثنان من العمال بالموقع، لتبدأ عملية الإنقاذ على أضواء الهواتف المحمولة. أعلى فوهة البئر، كان المشهد أكثر زحامًا، العشرات احتشدوا، البعض منهم أطلق حكمًا باتًا باستحالة إنقاذ تلك السيدة، والبعض منهم أخذ يستفسر عن ماهية وقصة تلك السيدة، والبعض الآخر يتطلع لخاتمة جيدة لذلك الموقف المتأزم. في ظل ذلك الزخم، بدأ وليد يحث تلك الحشود على التصرف بإيجابية، فطلب الابتعاد عن حافة البئر لترك مساحة للضوء لكي يتسلل لداخله، ولمنع سقوط الأتربة على رؤوس المصابة ومرافقيها بالبئر. وبدأ يوجههم لإحضار حبال غليظة وطويلة، وبالفعل نجحت كلماته في فك ذلك الحشد البشري. وعلى الفور تلقف وليد أول حبل، وربط به شنطة الإسعافات الأولية، وتلاها في النزول شنطة الجبائر والبوردات الصلبة. وعلى الفور، بدأ إبراهيم في فحص السيدة وطمأنتها، ليتأكد بالفحص الظاهري أنها تعاني من إصابات حادة بالعمود الفقري والقدمين، ليبدأ في تأمينها وتحريكها بحذر، وتأمين الفقرات العنقية لها وتثبيت مواضع الإصابات، كل ذلك بحركات تبلغ سنتيمترات، بلا مبالغة، لمنع تفاقم إصابتها.
هتطلعوها إزاي دلوقتي
"هتطلعوها إزاي دلوقتي؟" سؤال بديهي طرحته الحشود التي كانت آخذة في التزايد، ونفس السؤال ردده مرافقي إبراهيم من العمال. ليبدأ وليد وإبراهيم المرحلة الأخيرة والأصعب، حيث جهز وليد أربع حبال قوية وساوى بينها في الطول، وألقى طرفها لإبراهيم، الذي بدأ في ربط الأطراف الأربعة للبورد الصلب الذي يحمل المصابة، مع تأمين المصابة بالحزام العنكبوتي لتثبيت جسدها أثناء الصعود. وبعد التأكد من إحكام الحبال وشدتها، بدأ وليد في توجيه الحشود البشرية وحثهم على رفع الحبال في توقيت متزامن وشد الحبال بهدوء.
أمتار قليلة قطعتها تلك السيدة في رحلتها للصعود، ولكنها الأمتار الأصعب التي مرت بها رحلة حياتها. توتر وقلق مشوب بأنفاس متلاحقة، وحبات عرق متناثرة تعلو الوجوه، واحتل إبراهيم ووليد صدارة الأكثر قلقًا وتوترًا. وأخيرًا تتهلل الأسارير، وتنفرج الوجوه، وتعلو الابتسامة الوجوه مع وصول جسد السيدة لسطح الأرض. لينسدل الستار على ذلك المشهد، وإبراهيم يدفع ترولي سيارة الإسعاف ويغلق باب سيارته، ويجلس ليتابع الوضع الصحي للسيدة، وفي الجانب الآخر زميله وليد، وهو يغلق باب سيارته، معلنًا مع تشغيله لصوت سارينة الإسعاف المميزة بداية فصل جديد من تلك الملحمة باتجاههم صوب المستشفى.
0 تعليق