لسنوات، عرف العلماء أن أمريكا الشمالية شهدت موجات جفاف ممتدة منذ آلاف السنين. تسببت هذه الأحداث في انقراض أعداد هائلة من الغابات، وأعادت تشكيل أنظمة بيئية بأكملها. ولكن حتى الآن، ظل السبب الدقيق وراء موجات الجفاف القديمة غامضًا.
اكتشف فريق بحثي دولي صلةً قويةً بين موجات الجفاف الشديدة وقوة خفية لكنها مؤثرة، وهي تغيرات مدار الأرض. ركزت الدراسة على فترة دافئة في تاريخ الأرض تُسمى “الهولوسين”، والتي بدأت بعد العصر الجليدي الأخير وتستمر حتى اليوم. وقد نُشرت الدراسة كاملة في مجلة Nature Communications.
إعادة بناء التحولات المناخية الإقليمية
استخدم الباحثون حبوب لقاح متحجرة، جُمعت من مواقع مختلفة في أنحاء أمريكا الشمالية، لتتبع كيفية تغير مستويات الرطوبة على مدار الأحد عشر ألف عام الماضية. وساعدتهم خوارزمية تعلم آلي في إعادة بناء التحولات المناخية الإقليمية خلال تلك الفترة.
ما اكتشفه الفريق كان مذهلًا: فقد كانت مستويات الرطوبة في العديد من المناطق أقل بكثير من مستوياتها الحديثة لآلاف السنين، كما كان توقيت الجفاف يختلف من منطقة إلى أخرى.
جفاف دام آلاف السنين
المؤلف الرئيسي للدراسة، ج. ساكاري سالونين، زميل باحث في أكاديمية فنلندا بقسم علوم الأرض والجغرافيا بجامعة هلسنكي، أوضح أن حالة الجفاف بدأت في شمال شرق الولايات المتحدة والمناطق المجاورة في كندا، التي تُعد اليوم من أكثر المناطق رطوبة في أمريكا الشمالية.
وقال سالونين: “نشهد ذروة الجفاف في هذه المناطق منذ 11 ألف عام. أما في وسط القارة، وتحديدًا في منطقة البراري الحديثة، فقد وقعت أشد حالات الجفاف منذ حوالي 7000 عام، أي بعد آلاف السنين من حدوثها على ساحل المحيط الأطلسي”.
وأضاف: “بحلول ذلك الوقت، كان ساحل المحيط الأطلسي قد أصبح أكثر رطوبة بالفعل، ويبدو الأمر كما لو أن الشذوذ المناخي الذي تسبب في الجفاف الممتد بدأ في الهجرة غربًا”.
استكشاف سبب الجفاف القديم
أشار جاك ويليامز، من جامعة ويسكونسن ماديسون، إلى أن هناك تصورًا خاطئًا شائعًا بأن المياه متاحة دائمًا، وخصوصًا في شرق الولايات المتحدة. ومع ذلك، تُظهر دراسات الماضي أن فترات الجفاف الطويلة يمكن أن تُحدث تحولات جذرية في نظام الحرائق وموت الأشجار، حتى في المناطق الرطبة تقليديًا.
قال ويليامز: “من الضروري فهم الأنماط المكانية لهذه الفترات من الجفاف وأسبابها”.
لاختبار أسباب هذه الظواهر المناخية القديمة، أجرى العلماء محاكاة مناخية باستخدام نماذج عالية الدقة. وقد طابقت نتائج المحاكاة البيانات الناتجة عن إعادة بناء المناخ من حبوب اللقاح، وساعدت في تفسير سبب الجفاف الواسع النطاق.
ما كشفته المحاكاة
وفقًا للباحثين، كان هناك عاملان رئيسيان وراء تلك الموجات الجافة. في أوائل عصر الهولوسين، دفع نظام ضغط مرتفع فوق بقايا الغطاء الجليدي الرطوبة بعيدًا عن أجزاء كبيرة من القارة، مما أدى إلى جفافها، وخصوصًا في الشرق.
ومع ذوبان الغطاء الجليدي، ظهر عامل آخر، وهو ارتفاع درجات الحرارة، حيث أدت فصول الصيف الدافئة إلى تجفيف التربة بشكل أسرع من قدرة الأمطار على تجديدها.
فريدريك شينك، عالم فيزياء الغلاف الجوي في جامعة ستوكهولم وزائر علمي في جامعة هلسنكي، قال: “تُظهر عمليات المحاكاة أنه في العصر الهولوسيني المبكر، كان نظام الضغط العالي عند الغطاء الجليدي، الذي بقي في الجزء الشمالي من القارة، يوجه نقل الرطوبة، وهو ما يفسر التحول الجغرافي في الظروف الجافة”.
وأضاف: “بشكل عام، قد يبدو أن المناخ الأكثر دفئًا يجب أن يكون أكثر رطوبة، لكن هذا لا ينطبق على جميع المناطق. وكما تُظهر نتائجنا، هناك حدود إقليمية لكمية الأمطار التي يمكن أن تهطل لموازنة التبخر الناتج عن الاحترار. بالنسبة للاحترار الصيفي الشديد في الماضي، لم يكن ذلك كافيًا، مما أفسح المجال لفترات جفاف امتدت لآلاف السنين”.
الغازات الدفيئة والجفاف الحديث
ويشير الباحثون إلى أنه على الرغم من اختلاف أسباب الجفاف في الماضي والمستقبل، فإن العواقب قد تكون متشابهة.
في الماضي، كان التحول التدريجي في مدار الأرض هو ما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة في الصيف وتسبب في موجات جفاف شديدة. أما اليوم، فإن انبعاثات غازات الدفيئة السريعة تُسهم في تفاقم هذا الاتجاه بوتيرة أسرع بكثير.
وقال سالونين: “إذا كانت توقعات المناخ لهذا القرن صحيحة، فإننا نتطلع إلى تكرار سريع لما حدث، لأسباب طبيعية، قبل عشرة آلاف عام”.
وعلى الرغم من الزيادة المتوقعة في هطول الأمطار، فمن المرجح أن يجف جزء كبير من أمريكا الشمالية بحلول نهاية القرن، ويرجع ذلك إلى أن ارتفاع درجة حرارة الهواء يُسبب تبخرًا أكبر، مما قد يؤدي إلى جفاف التربة حتى في ظل زيادة الأمطار.
مدار الأرض والجفاف الشديد
يتغير مدار الأرض باستمرار على مدى فترات زمنية طويلة. وتُسمى هذه التغيرات “دورات ميلانكوفيتش”، وهي تؤثر على ميل الكوكب وبُعده عن الشمس. تحدث هذه التغيرات على مدى عشرات الآلاف من السنين، وقد شكّلت تاريخ مناخ الأرض.
قبل نحو 20 ألف عام، حدّ مدار الأرض من وصول ضوء الشمس إلى نصف الكرة الشمالي، مما ساعد على تشكّل صفائح جليدية ضخمة. ثم، قبل 10 آلاف عام، ذابت معظم هذه الصفائح، مُعلنةً بداية عصر الهولوسين، وهي فترة دافئة بين العصرين الجليديين. بين 10 آلاف و4000 عام مضت، كانت درجات حرارة الأرض أعلى مما هي عليه اليوم.
تُظهر هذه الدراسة الحديثة أن نفس الظروف المدارية التي أدت إلى ارتفاع حرارة الأرض، كانت السبب في حدوث جفاف طويل الأمد في أمريكا الشمالية. وبينما تشهد الأرض تبريدًا بطيئًا منذ ذلك الحين، فإن الاحترار السريع الناتج عن النشاط البشري خلال القرن الماضي قد أخرجنا عن مسار الدورة الطبيعية.
ويُحذر العلماء من أن فهم ما حدث في الماضي قد يكون أمرًا حاسمًا للاستعداد لما قد يأتي لاحقًا.
ويذكر هذا البحث بحقيقة صادمة: حتى التغيرات الطبيعية البطيئة في مدار الأرض كانت كافية لإحداث تحولات مناخية هائلة. ومع التغيرات الحالية الأسرع بكثير، قد تكون الآثار بنفس الشدة، ولكنها تحدث اليوم بشكل فوري وآني.
0 تعليق