في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتنامي الإدانات الدولية، دخلت الأزمة طورًا جديدًا من الضغوط الغربية، ليس فقط على الصعيد السياسي والإنساني، بل من بوابة العلاقات الاقتصادية والاتفاقيات الاستراتيجية.
إذ بدأت دول أوروبية كبرى، على رأسها فرنسا وبريطانيا، تلوّح بمراجعة أو إلغاء واحدة من أبرز الاتفاقيات التي تربط الاتحاد الأوروبي بإسرائيل، في خطوة غير مسبوقة تهدد بإعادة صياغة العلاقة بين الطرفين بعد أكثر من ربع قرن من التعاون.
فهل يمكن أن تصل الأمور إلى حدّ فرض العقوبات الاقتصادية؟ وما هو تأثير ذلك على الاقتصاد الإسرائيلي؟

تهديدات أوروبية... وتصاعد الغضب الدبلوماسي
في بيان مشترك صدر أمس الاثنين، وجّهت كل من فرنسا وبريطانيا وكندا تحذيرًا شديد اللهجة إلى إسرائيل، ملوّحين بفرض عقوبات مباشرة على إسرائيل في حال استمرار العملية العسكرية في غزة، واستمرار القيود على دخول المساعدات الإنسانية.
وفي خطوة نوعية، أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو الثلاثاء، عن دعم باريس لمراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، داعيًا المفوضية الأوروبية إلى فتح تحقيق رسمي بشأن مدى التزام إسرائيل بالمادة الثانية من الاتفاقية، والتي تشترط احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية كأساس للتعاون.
بارو أوضح أن تسهيل إسرائيل وصول بعض المساعدات إلى غزة "غير كافٍ على الإطلاق"، مشددًا على الحاجة إلى تدخل إنساني فوري وكبير.
من جانبه، صعّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لهجته، وندّد بسياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واصفًا تعامل حكومته مع الملف الإنساني بأنه "مخزٍ وغير مقبول"، وداعيًا الدول الأوروبية إلى دراسة فرض عقوبات إضافية، بما يشمل إعادة تقييم الاتفاقيات الاقتصادية القائمة مع إسرائيل.
وفي هذا السياق، يناقش وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في اجتماعهم ببروكسل، إمكانية مراجعة الاتفاقية أو تعليقها، وهو ما قد يشكل سابقة منذ توقيعها.
ويأتي ذلك وسط شعور متنامٍ داخل أوروبا، بأن إسرائيل لم تعد تلتزم بالمعايير المشتركة التي وضعت كأساس للتعاون المستمر منذ ربع قرن.
ما هي اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية؟
وقّع الاتحاد الأوروبي وإسرائيل اتفاقية الشراكة في بروكسل عام 1995، ودخلت حيز التنفيذ عام 2000 بعد مصادقة جميع البرلمانات الأوروبية والكنيست الإسرائيلي.
وتُعد هذه الاتفاقية حجر الأساس في العلاقات الثنائية، إذ تنظم التعاون السياسي والتجاري والاستراتيجي بين الجانبين، وتشمل محاور رئيسية أبرزها:
- تحرير شبه كامل للتجارة: عبر إلغاء الرسوم الجمركية والحواجز التجارية.
- تعاون استراتيجي واسع: يشمل مجالات مثل التعليم، البحث العلمي، الزراعة، الأمن، النقل، والثقافة.
- إدماج تدريجي لإسرائيل في السوق الأوروبية: بمنحها امتيازات مماثلة لتلك التي تتمتع بها بعض دول الاتحاد.
- مجلس شراكة ثنائي: يُعنى بمتابعة وتنفيذ بنود الاتفاق.
غير أن المادة الثانية من الاتفاقية أصبحت اليوم في قلب الخلاف الأوروبي الإسرائيلي، إذ تنص صراحة على أن "جميع أحكام الاتفاقية تقوم على احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية". وهذه المادة، التي لطالما اعتبرها الأوروبيون رمزية، أصبحت حاليًا القاعدة التي يُبنى عليها مطلب المراجعة وربما الإلغاء، في ضوء اتهامات متزايدة لإسرائيل بانتهاك هذه المبادئ في غزة.
التأثيرات الاقتصادية المحتملة على إسرائيل
أي تعليق أو إلغاء لاتفاق الشراكة من قبل الاتحاد الأوروبي سيشكّل ضربة موجعة للاقتصاد الإسرائيلي، الذي يعتمد بنسبة كبيرة على أوروبا في معاملاته التجارية. وتشير البيانات إلى أن 31% من واردات إسرائيل و24% من صادراتها تتم مع دول الاتحاد الأوروبي، ما يجعل أوروبا الشريك التجاري الأكبر لتل أبيب.
ورغم الظروف الحربية، بلغت صادرات إسرائيل إلى أوروبا في الربع الأول من عام 2024 نحو 4.27 مليار يورو، ساهمت في تحقيق فائض تجاري ملموس. كما تستفيد الجامعات والمؤسسات البحثية الإسرائيلية من التمويل الأوروبي ضمن برامج علمية مشتركة، حصلت من خلالها على 126 مليون يورو منذ اندلاع الحرب الأخيرة فقط.
ويرى محللون أن ما يميز الحراك الأوروبي الحالي هو تجاوزه للمواقف الإعلامية إلى خطوات مؤسساتية فعلية، مثل التحركات داخل البرلمان الأوروبي والمبادرات الوطنية، كما في هولندا وفرنسا. ويشير ذلك إلى احتمال حدوث تحول جذري في نمط العلاقات الأوروبية الإسرائيلية، ما يعمّق من الأزمة السياسية والاقتصادية التي تواجهها إسرائيل، ويضعها أمام "أخطر أزمة دبلوماسية اقتصادية منذ عقود"، بحسب وصف مراقبين غربيين.
التهديدات الأوروبية لم تعد مجرد ضغوط دبلوماسية، بل تحوّلت إلى تهديد مباشر للبنية الاقتصادية والتجارية للعلاقات مع إسرائيل. وإذا ما قرر الاتحاد الأوروبي تعليق أو إلغاء اتفاقية الشراكة، فإن تل أبيب قد تواجه عزلة اقتصادية غير مسبوقة، تضيف إلى أزماتها الأمنية والدبلوماسية والإنسانية، في وقت يتزايد فيه الاستياء الدولي من سياساتها في غزة والضفة الغربية. الأيام المقبلة قد تكون حاسمة في رسم مستقبل هذه العلاقة الاستراتيجية الممتدة منذ أكثر من ربع قرن.
وفي هذا السياق، رحّب الدكتور محمد محمود مهران، أستاذ القانون الدولي، بالبيان الثلاثي الصادر عن بريطانيا وفرنسا وكندا، معتبراً أنه يمثل تحولاً في مواقف بعض الدول الغربية وتحملها لمسؤولياتها القانونية والأخلاقية.
واعتبر مهران، البيان بأنه اعترافاً ضمنياً بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب، خاصة من خلال منع دخول المساعدات الإنسانية، وهو ما يشكل انتهاكاً لاتفاقيات جنيف وللقانون الدولي الإنساني.
إسرائيل تستخدم التجويع كسلاح
أضاف مهران في تصريحات لـ “صدى البلد”، أن سماح إسرائيل بدخول تسع شاحنات فقط من المساعدات لا يعدو كونه خطوة دعائية لتجميل صورتها أمام العالم، في وقت يعيش فيه أكثر من مليوني فلسطيني تحت حصار يرقى إلى استخدام التجويع كسلاح، وهو ما يندرج أيضاً ضمن جرائم الحرب حسب نظام روما الأساسي.
وشدد على ضرورة البناء على البيان الثلاثي لتحريك موقف دولي أوسع، خصوصاً بعد انضمام أكثر من 22 دولة للمطالبة بفتح المعابر وإدخال المساعدات. كما دعا إلى خطوات عملية مثل فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، وتفعيل مبدأ الولاية القضائية الدولية لمحاكمة المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في انتهاكات جسيمة.
وفي الختام، دعا الدكتور مهران إلى تحرك عربي موحد يستثمر هذا التحول الدولي، مؤكداً أن الاكتفاء بالتصريحات لن يكون كافياً، محذراً من أن استمرار ازدواجية المعايير سيقوّض مصداقية النظام الدولي ويفاقم حالة الإحباط من فاعلية القانون الدولي في إنصاف الشعوب المظلومة.
0 تعليق