حين ماتت الرسالة واختفى الضمير تحت عجلات «اللايك» والمشاهدات، في زمنٍ صار فيه «الترند» هو الإله، ومؤشرات المشاهدة هي المعيار الأعلى، انحرفت بوصلة الإعلام عن مسارها الأخلاقي، وضاعت هيبة الكلمة بين هتافات الإثارة الرخيصة وركام الفضائح.
الإعلام الذي خُلق ليكون ضمير الشعوب ولسان الحق، أصبح اليوم منصة لتفريغ الخصوصيات، وتلميع الزيف على حساب القيم والمبادئ أحيانًا كثيرة، فهل انتهى عصر الإعلامي الذي يحمل همّ الناس؟ وهل ماتت مهنة كانت تُشبه رسالة الأنبياء؟
الرسالة التي ضاعت.. الإعلام ليس مهنة بل موقف
لم يكن الإعلام يومًا وظيفة تُؤدى داخل الاستوديوهات فقط، بل كان صوتًا حيًا في الشارع، نبضًا في قلب الأزمات، ضوءًا يُضيء عتمة الجهل، ويدًا تمتد لتربّت على كتف المظلوم.
الإعلام الحقيقي هو الميثاق الأخلاقي للضمير الذي يرفض التزييف والتلميع على حساب المظلوم، هو الإعلام الذي يُحرّم التشهير، ويُلزم بالتحقيق الدقيق كي يرفع الحق وينصر المظلوم ويدافع بشرف عن أي قضية تقلق الجمهور.
هو من يفتح الملفات المسكوت عنها، لا من يتاجر في مشاعر الناس وحياتهم الخاصة، نشتاق لأيام أحمد سمير ووقاره، ولحكمة مفيد فوزي حين يسأل، ولرصانة طارق حبيب، ولثقل ليلى رستم حين تنظر بعين المثقف لا بعين الصيّاد.
من صالة التحرير إلى حلبة السيرك
صار بعض الإعلام اليوم أقرب إلى السيرك منه إلى منصة الوعي، نرى صراخًا لا نقاشًا، ودموعًا مصطنعة لا مشاعر، وموضوعاتٍ تافهة تحصد ملايين المشاهدات، بينما تُهمّش القضايا الحقيقية التي تحرق قلوب الناس.
تُعرض مشاجرات الأزواج على الهواء، وتُفتح ملفات الخيانة وكأننا في ساحة انتقام لا شاشة وطن، وبدل أن نُربي جيلًا يُفكر، نُقدّم له وجبة "ترفيه سامة" تجعله يستهلك لا يفكر، يتابع لا يشارك.
سقوط أخلاقي تحت اسم «الجمهور عايز كده»
«الجمهور عايز كده» أصبحت الشمّاعة التي تُعلّق عليها كل الخطايا المهنية، لكن الحقيقة أن الجمهور ليس غبيًا، بل هو ضحية إعلام يُغذّيه بما يُريد هو، لا بما يحتاجه الناس، الجمهور كان وما زال يُحب الحقيقة، يُقدّر الصدق، ويشتاق لإعلامي جريء يُسائل، لا مهرّج يُصفّق.
أين ذهب ميثاق الشرف؟
في الماضي، كان الإعلامي يعرف أنه يقف أمام الكاميرا وكأنها محكمة ضمير، يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسب الآخرين.
الميثاق الأخلاقي للإعلام.. يرفض التزييف، ويُحرّم التشهير، ويُلزم بالتحقق من المصدر.
أما اليوم، فالكثير لا يبحث إلا عن لقطة مثيرة تُقطع وتُوزّع على السوشيال ميديا، تُشعل الجدل ولو كانت كاذبة، وتُحطّم سمعة إنسان ولو كان بريئًا.
قيمة الكلمة.. الإعلامي الذي كانت كلمته سيفًا
في زمن حمدي قنديل، لم تكن الكلمة مجرد جملة تُقال، بل كانت قنبلة وعي تُفجّر الصمت، حين كان يقول: "أقول لكم.. .لا"، كانت كلمته تُربك، تُحاسب، تُحرّك الرأي العام.
أما اليوم، فالكلمة أصبحت مفرّغة من معناها، تُقال بلا إحساس، وتُنسى بمجرد انتهاء الحلقة.
الفرق ليس فقط في الأشخاص، بل في الإحساس بالرسالة.
الإعلام الجديد.. فرصة ذهبية أم خنجر في الظهر؟
لا شك أن المنصات الرقمية فتحت الباب للجميع، وأتاحت الفرصة لمواهب حقيقية أن تظهر، ولكنها أيضًا منحت المايكروفون لمن لا يستحق، والكاميرا لمن لا يعرف أبجديات المهنة، هناك من الشباب من بدأ يُعيد الأمل، ويُنتج محتوى نقيًا، ويُقدّم طرحًا ناضجًا، لكنهم يُدفنون تحت زحام التفاهة، في سوق تُسيطر عليه حسابات التسويق لا حسابات الضمير.
حين يسقط الإعلام.. .تسقط الأمم
الإعلام هو العمود الفقري لأي مجتمع، وإذا انكسر هذا العمود، انحنت الأوطان، وضاعت الحقيقة بين صخب الأكاذيب.
لسنا بحاجة لإعلام يُصفّق، بل لإعلام يُراقب، يُحاسب، يُنير العقول لا يُطفئها، فليت الإعلامي يسأل نفسه قبل أن يبدأ البث: «هل سأُخرج بحلقتي هذه إنسانًا أكثر وعيًا أم أكثر تيهًا؟ هل أُرضي ضميري أم أُرضي مؤشرات المشاهدة؟»
الإعلام ليس مهنة لمن لا ضمير له، الإعلام ساحة شرف، لا ساحة ترند.
الإعلامي الحقيقي.. تطهير الذات قبل تصدير الرسالة
في وسط هذا الانحدار، لا بد للإعلامي الحقيقي أن يبدأ معركته من الداخل: تطهير النفس من شوائب المصلحة، وتنقية الرسالة من دنس الاستعراض، الإعلامي الذي يؤمن بقدسية الكلمة، عليه أن يتطهّر من الانجراف وراء اللايك والترند، ويعود إلى ميدان الشرف والكلمة الحرة.
بلادنا اليوم لا تحتاج إلى مُعلّقين يُجيدون الصراخ، بل تحتاج إلى إعلاميين يُجيدون البناء، الإعلامي يجب أن يكون شريكًا في نهضة الأمة، لا عائقًا أمامها، حافرًا في الصخر لنشر الوعي، لا ناقلًا للفضائح باسم الترفيه، لقد جاءت لحظة الحقيقة، وعلى الإعلامي أن يختار: إمّا أن يكون لسانًا لنهضة وطن، أو أداة في هدم ضميره وضمير أمّته.
0 تعليق