عبد السلام فاروق يكتب: سيرة الضوء والكلمات في فضاء ميسون صقر القاسمي ـ موقع الآن نيوز

صدى البلد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا تشبه ميسون صقر القاسمي أحدًا، لكنها تشبه كل شيء. كأنها نهر يبحث عن مجراه بين الشارقة والقاهرة، حاملة في حقيبتها ثقافتَين بحرين: ذاكرة خليجية تتدفق كالمد، وثقافة مصرية تتراكم كالطمي. تكتب بلا جذور ثابتة، لأنها تؤمن أن الهوية ليست أرضًا نرثها، بل سماء نصنعها بأجنحة الكلمات. هكذا تتحول اللغة عندها إلى مركبٍ يبحر بين الأزمنة، حاملًا أسئلة الوجود في حقائب الرحلات: الخروج عن الجغرافيا، التحرر من التصنيف، تجاوز الذات نفسها.  
أعرفها منذ سنوات طويلة، ولا أتذكر أنني كتبت عنها سوى بعض الأخبار العابرة، كمن يمر بسرعة أمام لوحة معلقة في زاوية معتمة من متحف، ثم يندم لاحقا لأنه لم يقف طويلا أمام تفاصيلها. هي لا تشبه أحدًا، ولا تشبه نفسها. كل قصيدة تكتبها، كل لوحة ترسمها، هي محاولة للهروب من النسخة السابقة منها. ربما لهذا السبب يصعب علي أن أتحدث عنها ببساطة، لأنها ترفض أن تكون حكاية تختزل في سطور.  
ابنة مصر والشارقة..
"أنا ابنة المكان الذي أختاره كل صباح"، قد تقول ميسون لو سئلت عن هويتها. هي ابنة مصر بثقافتها المتشعبة، وابنة الشارقة بفضائها المفتوح على الخليج والعالم. لكنها، في النهاية، ابنة اللغة. تلك اللغة التي تتحول تحت يدها إلى فرشاة ترسم بها ألوانًا لا ترى إلا بالقلب. في شعرها، تذوب الحدود بين الجملة واللوحة، بين الكلمة واللون. ليست شاعرة تشكيلية أو فنانة تكتب الشعر، بل هي كائن يختزل العالم في حروف تشبه النوافذ.  
تقول إن "الصداقات تفسد الإبداع"، وأنا أفهمها. فالصداقة الحقيقية، مثل النقد الحقيقي، تتطلب نوعًا من الخيانة. خيانة الصورة النمطية التي نصنعها عن الآخر، وخيانة التوقعات التي نحملها لأصدقائنا. ميسون تعرف هذا جيدًا، ولهذا ترفض أن تكون ضحية للعواطف الجاهزة. هي لا تكتب لترضي أحدًا، ولا ترسم لتذكر في سجل المجاملات. إبداعها هو فعل تمرد على كل ما هو متوقع.  
لو سألتها عن النقد، لربما قالت إنه "تزييف للنظرة". لكنها تعرف، كما أعرف، أن النقد الحقيقي هو أقرب إلى الحب منه إلى الحكم. هو محاولة لقراءة ما بين السطور، لرؤية ما خلف اللوحة. النقد الذي تستحقه ميسون ليس ذلك الذي يختزل أعمالها في كلمات مكرورة، بل ذلك الذي يعترف بأنها تخلق عوالم لا تختزل.  
ميسون صقر القاسمي تحمل البحر في حقيبتها. بحر مصر، وبحر الشارقة، وبحر اللغات التي تتدفق في أعمالها. هي تعرف أن الإبداع ليس وطنًا، بل هو منفى نختاره كل يوم. وربما لهذا السبب تظل لغتها طازجة، كأنها تكتب للمرة الأولى. لأنها، في النهاية، ترفض أن تكون أي شيء سوى نفسها.  
2. الدواوين الشعرية: حين تصبح الكلمات ألوانًا  
في دواوينها مثل "هكذا أسمي الأشياء " و"الآخر في عتمته "، تتعامل ميسون مع القصيدة كـ"مساحة تشكيلية". هنا، لا تنفصل تجربتها البصرية عن الكتابة:   القصيدة كلوحة تجريدية: تكتب بكلمات مختزلة، كأنها "خطوطٌ أساسية" في رسمة، تترك للقارئ مهمة إكمال المشهد. في "رجل مجنون لا يحبني "، تتحول الأوراق إلى "أشباح ألوان" تتدفق بين السطور:  
  "هل سترعي النبتة التي تستيقظ جوارك 
هل ستمضي في الحب نحوها 
زهرة الحناء أم زهرة الليمون أحب إليك "
تشكيل العالم بلونين  
في عالمها، تذوب الحدود بين الحرف واللون. الكلمات تصبح حروفًا متحركة، أشبه بدهانات سائلة ترسم بها لوحات نصية. ديوانها "رجل مجنون لا يحبني" فسيفساء من الذكريات الملونة، ترصع بها جدران الذاكرة كأنها نوافذ تطل على عوالم موازية. أما "مقهى ريش"، الذي نال جائزة الشيخ زايد، فهو كتاب نجح في أن يجعل المقهى إلى كائن حي ينبض بأنفاس الرواة، وتتحول الطاولات إلى مساحات للسرد الجماعي، حيث تذوب الفواصل بين الواقع والمتخيل.  
لعبة الظل والنور  
أما لوحاتها التشكيلية فهي لا تنفصل عن نصوصها، إنها وجه آخر للقصيدة. ففي معرض "السرد على هيئته"، تتحول الحروف إلى نقاط لونية، كأنها ندى يتراكم على زجاج الذاكرة. تقول: الصداقات تفسد الإبداع، لأنها ترفض أن تكون سجينة توقعات الآخرين. نقدها لا يكتفي بقراءة السطح، بل يحفر في طبقات النص كما ينقب الأثري عن مدن مطمورة، مكشوفةً عن أسئلة الهوية والتنقل بين الأزمنة .  
إنها الشاعرة التي ترفض أن تختزل في تعريف. شعرها ليس حداثيًا ولا تراثيًا، بل كائن هجين يولد من رحم التناقضات. في ديوان "في فمي لؤلؤة"، تنسج حكايات اللؤلؤ بالشعر الشعبي، كأنها تحيك سجادة من خيوط التراث والحداثة، مذكرة بأن الخروج عن التقاليد ليس قطيعة، بل استعادة جديدة للجذور. هي لا تكتب لترضي أحدًا، لكن لترسم مسارًا للضوء يتجاوز المألوف، ضوء يخترق السرد التقليدي كما تخترق الشمس زجاج النوافذ.  
ميسون لا تسكن مكانًا واحدًا. هي ابنة التشكيل والشعر، ابنة اللغات المتعددة، ابنة الزمن السائل الذي يذوب فيه الماضي في الحاضر. تكتب كما يعيش البحر مترددًا بين المد والجزر، لكنه يظل بحرًا". في نصوصها، تخلق أوطانًا موازية تلتقي فيها الشارقة بمصر، والحروف بالألوان ، والذاكرة بالحلم. هكذا تظل صوتًا فريدًا، لا يشبه سوى نفسها، صوت يحمل البحر المسافر في حقيبة، الذي يختار دائمًا أن يبحر نحو المجهول. 
لماذا تظل ميسون صقر القاسمي كاتبة "غير مريحة"؟  
لأنها ترفض أن تكون في المكان المتوقع: فهي لا تنتمي إلى مدرسة شعرية محددة: شعرها يهرب من التصنيف، فهو ليس حداثيًا تقليديًا ولا معاصرًا سائبًا، بل هو "كائن هجين" بين الأنواع. كما أنها تدمر الحدود بين الفنون بدمجها الشعر والتشكيل والسرد، تذكرنا بأن الإبداع الحقيقي لا يسكن في الصناديق.  
هكذا، تصبح ميسون ابنة شرعية لذلك التقليد العريق الذي يمزج بين الفنون، لكنها تظل "صوتًا فريدًا" لأنها، في النهاية، لا تشبه إلا نفسها.

أخبار ذات صلة

0 تعليق