في ذكرى رحيله.. "موريس ماترلينك" حكيم الرمزية همس بالحقيقة في آذان الصمت ـ موقع الآن نيوز

صدى البلد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم يكن مسرحيًا تقليديًا، ولا شاعرًا مألوفًا، بل كائنًا غريبًا خرج من رحم الغموض، البلجيكي موريس ماترلينك، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله، ونال جائزة نوبل في الأدب عام 1911، عرف باسم الكونت ماترلينك، وكان أحد أكثر الكُتّاب إثارة للجدل في زمانه، لا بسبب صراخ أدبه، بل بسبب صمته العميق الذي كان أعلى من كل الضجيج.

الحياة المبكرة.. الابن الذي خذل العائلة

 

ولد ماترلينك في مدينة غنت، لعائلة برجوازية محافظة كانت تحلم بأن يصبح ابنها محاميًا لامعًا، درس القانون بالفعل، لكنه كان شغوفًا بالأدب الفرنسي، وبدأ كتابة الشعر متأثرًا بـمالارميه وبودلير، وكان تمرده صامتًا، لكنه قاطع، ففي باريس، حيث ذهب ليدرس القانون، حضر جلسات الشعر الرمزي في صالونات سان جرمان، وهناك تبدّل مصيره.

الانفجار الرمزي.. حين كتب "الأعمى" وهو يرى كل شيء

عام 1890، نشر مسرحيته الشهيرة "الأعمى (Les Aveugles)"، التي فجّرت مفهوماً جديداً للدراما: شخصيات عمياء، واقفة وسط الغابة، تنتظر من يقودها دون أن تدري أن القائد قد مات، كانت رمزية كثيفة عن البشرية التائهة، والقدر الغامض، والعجز عن رؤية الحقيقة.

نقّاد كثيرون اتهموه بـ"العبث"، لكن آخرين رأوا فيه رائدًا يسبق عصره، وقد وصفه البعض بـ"شوبنهاور المسرحي".

"العصفور الأزرق".. هل كان حلمًا أم نبوءة؟

في عام 1908، كتب أشهر أعماله على الإطلاق: "العصفور الأزرق" مسرحية أطفال، تناولت رحلة طفلين يبحثان عن السعادة، في عوالم خيالية مليئة بالرموز الفلسفية، قال عنها ماترلينك: "العصفور ليس هدفًا، بل طريق، وإن وجدته قد لا تعرفه."

ما لا يعرفه كثيرون، أن المسرحية لم تُكتب لأطفال الأرستقراطية كما أشيع، بل كرسالة تعزية لنفسه بعد وفاة والدته، حيث مثّلت الرحلة بحثه عن الأمل بعد الحزن.

حياته العاطفية.. عندما سرق حبيبة صديقه

خلف ستار الرمزية، كانت هناك حياة شخصية مليئة بالعواطف والخيانات، أحب ماترلينك الممثلة الفرنسية جيورجيت لبلان، التي مثّلت في العديد من مسرحياته، لكن العلاقة شابها التوتر بعد أن اكتشف أنها على علاقة سابقة بصديق له، ومع ذلك، استمر ارتباطهما لسنوات، وكانت هي ملهمته في الكثير من أعماله.

لكن الطريف أن علاقته بها كانت مليئة بالغيرة والصراع، حتى أنه كتب عنها في مذكراته بأنها "تشبه شخصية من مسرحياتي، تتكلم كثيرًا ولا تقول شيئًا."

جائزة نوبل.. اعتراف متأخر أم قرار سياسي؟

في عام 1911، مُنح ماترلينك جائزة نوبل في الأدب، لكن فوزه لم يكن خاليًا من الجدل، فقد اتُهمت الأكاديمية السويدية بأنها أرادت التقرّب من فرنسا وبلجيكا سياسيًا، في ظل التوترات الأوروبية آنذاك.

ومع ذلك، لم يُنكر أحد أن أعماله قدمت ثورة أدبية صامتة، وأن تأثيره على المسرح العالمي، من بيكيت إلى يونسكو، كان هائلًا.

الغريب أن ماترلينك نفسه لم يُظهر حماسًا كبيرًا للجائزة، وصرّح في حفل الاستلام: "أنا مجرد مُتلقي لأصوات لا أملك مصدرها، أكتب ما يُملى عليّ."

أسرار "حياة النحل".. العلم كطريق للتصوف

من أغرب أعماله وأكثرها إثارة للدهشة كتابه "حياة النحل"، الذي كتبه عام 1901، مزيج فريد من العلم، والشعر، والفلسفة، لم يكن كتابًا عن النحل فقط، بل عن نظام الكون، والموت، والخلود.

وقال فيه: "في مملكة النحل، الموت من أجل الآخرين هو قانون الوجود، وهذا ما نحتاج أن نتعلمه نحن البشر."

كان يرى في الطبيعة نوعًا من الوحي الخفي، وربما لهذا السبب أُطلق عليه لاحقًا لقب: "حكيم الرمزية".

السنوات الأخيرة.. عزلة طوعية أم احتضار بطيء؟

بعد الحرب العالمية الأولى، انسحب ماترلينك من الحياة الثقافية تدريجيًا، استقر في قصره بجنوب فرنسا، محاطًا بالكتب والصمت، كان يكتب قليلًا، ويقرأ كثيرًا، ويحدّق طويلًا في السماء.

زارته الصحافة الفرنسية قبل عام من وفاته، فسألوه: "ما الذي تبحث عنه الآن؟" فأجاب: "أبحث عن صمت يشبه ما كنت أكتبه."

ماترلينك.. الرجل الذي جعل الغموض لغة

لم يكن موريس ماترلينك مجرد كاتب، بل كان صانع أسئلة، لا أجوبة، رجل آمن أن الإنسان لا يحتاج إلى ضوء قوي، بل إلى عصفور أزرق صغير يعلّمه كيف يرى في الظلام.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق